اضغط على الصورة لعرض أكبر.   الإسم:	الدينية في خطاب اليسار الجديد في المغرب.jpg  مشاهدات:	6  الحجم:	102.9 كيلوبايت  الهوية:	1370


احتضنت كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بأيت ملول يومه السبت 03 دجنبر 2022، قراءة في كتاب المسألة الدينية في خطاب اليسار الجديد، لمؤلفه الدكتور محمد الشيخ بانن، تخللتها كلمة للسيد عميد الكلية وأدارها الدكتور محمد لكريني وتدخل فيها الدكتور محمد همام والدكتور السعيد صدقي. كما شهدت الجلسة تفاعل الحضور، واليكم تقديم حول الكتاب لكل غاية مفيدة.

* الدكتور محمد الشيخ بانن
أستاذ باحث في العلوم السياسية والقانون العام بجامعة ابن زهر كلية الحقوق أيت ملول.


تمهيد:

ارتكزت الأديان منذ فجر التاريخ في وعيي معتنقيها، خاصة الإبراهيمية؛ اليهودية والمسحية والإسلام، على أمران أساسيان:

أولا: الاصطفائية: التي تعني أن الله قد اصطفى الرسول الذي بلغ الرسالة الخاصة به، كما اصطفى أصحابه الذين عاونوه على تبليغها ثم واصلوا حمل دعوته من بعده واصطفى، أيضا، أمته على سائر الأمم، وتستمر هذه الاصطفائية حتى نهاية الزمان. وهذا ما يتضح من خلال الأصول الثلاثة عشر التي وضعها موسى بن ميمون وجعلها أركان الإيمان اليهودي، حيث ينص الفصل السابع على ما يلي:" أنا اؤمن إيمانا كاملا بأن نبوة سيدنا موسى عليه السلام كانت حقا وإنه كان أبا للأنبياء مَن جاء منهم قبله ومن جاء بعده" . أما في المسيحية فقد تم اصطفاء عيسى بن مريم من خلال ما ورد في انجيل يوحنا؛ الإصحاح الثامن:" وخاطبهم يسوع أيضا فقال أنا نور العالم من تبعني فلا يتخبط في الظلام بل يكون له نور الحياة" . وذات الاصطفاء ورد في الإسلام، عن الإمام أحمد في مسنده، أن الرسول محمد قال:" أنا النبي محمد- قالها ثلاث- وَلاَ نَبِي بَعْدِي أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ، وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ، وَعَلِمْتُ خَزَنَةُ النَّارِ، وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ" .

ثانيا: الحقيقة المطلقة: وتعني أن الدين الذي يعتنقه الرسول وأصحابه وأمته هوالدين) وحده من دون سائر الأديان والعقائد، الذي يعبر عن الحقيقة المطلقة في كافة الشؤون وسائر الأمور التي لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها وإنها سوف تظل هي كلمة الرب الأخيرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها . فقد ورد في سفر التثنية، الإصحاح الخامس: "وَدَعَا مُوسَى جَمِيعَ إِسْرَائِيلَ وَقَالَ لَهُمْ: "اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ الْفَرَائِضَ وَالأَحْكَامَ الَّتِي أَتَكَلَّمُ بِهَا فِي مَسَامِعِكُمُ الْيَوْمَ، وَتَعَلَّمُوهَا وَاحْتَرِزُوا لِتَعْمَلُوهَا. اَلرَّبُّ إِلهُنَا قَطَعَ مَعَنَا عَهْدًا فِي حُورِيبَ. لَيْسَ مَعَ آبَائِنَا قَطَعَ الرَّبُّ هذَا الْعَهْدَ، بَلْ مَعَنَا نَحْنُ الَّذِينَ هُنَا الْيَوْمَ جَمِيعُنَا أَحْيَاءٌ". وبنفس الإطلاق تحدثت المسيحية في انجيل متى؛ الإصحاح الخامس: "فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أن تَزُولَ الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ، لَنْ يَزُولَ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ، حَتَّى يَتِمَّ كُلُّ شَيْءٍ(..) وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ بِهَا وَعَلَّمَهَا، فَيُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ" . وسيرا في نهج الاستحواذ على الحقيقة، نص القرآن:" وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" .

لا شك أن ما تقدم ذكره، شكل/يشكل عائقا استراتيجيا أمام ضرورات العيش المشترك بين كافة الأديان والطوائف والمذاهب. بل قاد/يقود إلى حروب مدمرة، حازت طابعا مقدسا، أنهك الإنسانية قاطبة في الماضي وقد يقضي عليها في الراهن أو المستقبل؛ نتيجة اصرار كل طرف أنه مصطفى ويمتلك الحقيقة المطلقة وغيره على ضلال.

وعيا بخطورة هذا الاعتقاد وما يحبل به من خراب وشرور، في إثر تدخله في الشأن السياسي، قامت الثورة الفرنسية باتخاذ عدة إجراءات تجاه تجليات الدين، وبذلك شكلت منعطفا هاما في السلوك والفكر الأوروبي، حيث كانت الملكية والإقطاع والدين في جانب والبورجوازية والعمال والفلاحين في جانب آخر، فكان لا بد، في إطار مصارعة ومقاومة سيطرة الإقطاع والملكية، من العمل على هدم أهم أسس سلطتهم؛ ألا وهو الدين، الذي كان سلاحا في يد الإقطاع، يعمل على وقف تحرك الجماهير في النضال من أجل فرض نفسها. وبعبارة أخرى فقد أصبح الدين آنذاك كواقع موضوعي، لا يعبر عن الرغبة الحقيقية للطبقات المضطهَدة والمستغَلة، ذات المصلحة في التغيير. فكان والحالة هذه من الضروري خوض صراع ضده، ليس على المستوى العملي وحسب ولكن أيضا على مستوى الثقافة والوعي، من خلال تعرية التوظيف السياسي للدين ومحاربته؛ مادام يعرقل تقدم المجتمع ويعمل على ادامة السيطرة عليه ، على حد تعبير الدكتور أحمد بوجداد*.

من خلال ما سبق، يبدو أن التاريخ الإنساني خبْر ثلاثة أشكال من الممارسات الدينية: فالشكل الأول هو الذي تدعم فيه الممارسات الدينية السلطة السياسية القائمة، بإعطائها المصداقية والمشروعية الروحية والأخلاقية وتبرير ممارساتها، وإعادة إنتاج أيدولوجيتها، مستندة في ذلك إلى تأويل خاص للنصوص الدينية تارة، أو التمسك الحرفي بها تارة أخرى .

فخلال القرنين الماضيين لعبت الديانة البروتستانتية، التي انشقت عن الكاثوليكية فتحالفت مع البرجوازية الصاعدة، دورا أساسيا تجاه موضوع الدين؛ خاصة بعدما قامت بتأويل النصوص الدينية فيما يضمن الدفاع عن فلسفة الأنوار والتشريع وفصل الدين عن الدولة . وهذا أيضا، ينطبق على آيات النص القرآني، مثلا، التي لم يكن لها أن تتكلم بذاتها، وإنما كان عليها - ولايزال- أن تتكلم بلغات الآخرين؛ أي من خلال جعلها تعبر عن مصالحهم و"مشكلاتهم وامكاناتهم وهمومهم وآفاق تفكيرهم وفهمهم. وهذا ما عبر عنه علي بن أبي طالب، إبان معاركه المريرة مع خصومه الدهاة الكثر، الذين لم يألوا جهدا لتطويع ذلك النص لاحتياجاتهم ومواقفهم، فقال ما يلي:" القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين، لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال" .

أما الشكل الثاني فهو المعبر عن الشعور بالعزاء عن الشقاء الأرضي الدنيوي، تطلعا وأملا في السعادة الأخروية، مع ما يتضمنه هذا من رضوخ للأوضاع السائدة: مهما كانت ظالمة ومستبدة. وهذا الشكل هو امتداد موضوعي للشكل الأول رغم ما قد يتضمنه من رفض معنوي سلبي للأوضاع المعيشة. أما الشكل الثالث للممارسة الدينية فهو الشكل الثوري الذي يتمرد على الأوضاع الظالمة المستبدة القائمة ويسعى إلى تغييرها في ضوء تأويل خاص، كذلك، للنصوص الدينية وفهم موضوعي للأوضاع السائدة . وهو ما قامت به الحركة القرمطية، على سبيل المثال لا الحصر، في القرن التاسع الميلادي في العراق والبحرين. والتي تشكلت، من جمهور الفلاحين والفقراء والمفقرين والعبيد والحرفيين الصغار وجموع الشطار والصعاليك، ضد التحالف الاقتصادي والسياسي، المتكون من كبار الملاكين من العرب والفرس وباقي أجناس الخلافة العباسية. حيث رفض القرامطة الواقع العبوديّ الإقطاعيّ الذي كان سائدا آنذاك، وناضلوا في سبيل بديل اجتماعي جديد، تتاح فيه للإنسان إمكانية التمتُّع بخيراته، من خلال مشاعيّة الأرض ( وما تنتجه = الغلة) والأموال، (والسلاح) والتعاون في سبيل مصلحة المجتمع، من طريق فرض الضرائب على جماعاتهم، من محاصل زراعية، ومراكب وسفن، واستخراج اللؤلؤ. وقد كانت هذه الحركة توزع المال بالتساوي على جميع الأفراد، وتدعم الصناعات الحرفية وكانت القرارات تتخذ بشكل جماعي. ولتسويغ حركتهم ورؤيتهم عملوا على تأويل القرآن والأحاديث تأويلا يخدم قضيتهم، على أساس التمييز بين باطنهما وظاهرهما، وقد كان ذلك ضروريا من أجل إيجاد صيغة تسمح لهم بالتصدّي للتفسير القرآني السائد؛ أي دين الدولة العباسية.

بناء على ما تقدم، يمكن القول إن النص الديني، قابل للتأويل في سياقات تاريخية مختلفة، لكونه أوسع من الايديولوجيا، فهو قادر على تجييش فئات شعبية واسعة ومختلفة ومتباينة المستويات التعبيرية والمواقع الاجتماعية، الأمر الذي يجعل منه سلاحا في يد الحاكم والمحكوم في نفس الوقت. أما مقاربته كإيديولوجيا فلا يعني ذلك إلا تناول جزء بسيط من الظاهرة الدينية ؛ باعتبارها ظاهرة دائمة مرتبطة"بالوعي والثقافة الشعبية، وهي تعبير عن الإحساس المشترك الذي كان علينا ادراكه والتعامل معه من موقع نقدي، وليس من موقف نفي، وكان علينا الاستفادة منها بدلا من صدمها أو التصدي لها، وقد التفّت الجماهير حولنا يوم التقطنا مدى تعلّقها بهذه الظاهرة التي وظّفناها بالاتجاه الصحيح" ، يردف عبد الحسين شعبان. وهو ما كان قد تحدث عنه لينين قائلا:"إذا أتى إلينا كاهن ليشارك في عملنا السياسي المشترك، ثم أدى مهمته في الحزب بضمير حي، وبدون معارضة برنامج الحزب من الممكن السماح له بالانضمام إلى صفوف، الاشتراكية-الديمقراطية، لأن التناقض بين روح ومبادئ برنامجنا وبين قناعات الكاهن الدينية سيكون، في مثل هذه الظروف، أمرا يتعلق به وحده، تناقضه الخاص(...) إذا انضم مثلا كاهن للحزب وجعل من نشر المفاهيم الدينية شغله الأول وشاغله الوحيد تقريبا فسيكون على الحزب أن يطرده بالضرورة من صفوفه علينا أن لا نقبل فقط العمال الذين مازالوا يحتفظون بإيمانهم بالله في الحزب الاشتراكي-الديمقراطي، بل علينا أن نعمل على جذبهم إليه إننا نعارض كليا أدنى إساءة توجه إلى قناعاتهم الدينية، ولكننا نجذبهم لكي نثقفهم بروح برنامجنا، لا لكي يحاربوا بنشاط هذا البرنامج".
والمقصود هنا، هو أن يلتزم رجال الدين ببرنامج الحزب، باعتباره مشتركا عاما، يعبر عن مصالح اجتماعية معينة، مع احترام احتفاظ الأفراد بدينهم الخاص.

إذا كانت التقاليد الماركسية تعتبر أن الدين شكل أدنى لفهم الواقع، فإننا نجد عند لاهوت التحرير لغة أخرى مختلفة؛ حيث يعتبر هذا الموقف جزءا من ايديولوجية الطبقة الوسطى المثقفة. فيما يسعى، لاهوت التحرير، من خلال مشروعه إلى تغيير الآفاق والعمل من داخل الواقع الديني بالموازاة مع التشديد على الابداعية الشعبية، خاصة المنطلقة من الدين، وذلك في تعارض واضح مع فرض نموذج ثقافي نخبوي؛ وهو الخطأ الذي سقط فيه العديد من الماركسيين، وخاصة الذين ينتمون إلى العالم العربي؛ عندما اعتبروا اشكال التدين المسيحي التي كانت سائدة، زمن ماركس، في أوربا، مثل أشكال التدين السائدة في بلدانهم. ما قادهم إلى استعمال نفس المنهج الذي استعمله ماركس وانجلز، مما أدى بهم إلى السقوط في الخطأ، نتيجة اختلاف الوضعيتين؛ فما يعتبر في وضعية ما لا يأخذ نفس البعد والشكل في وضعية أخرى. ومادام بعض هؤلاء لم ينطلقوا من واقعهم في الحكم على الدين، بل انطلقوا من واقع أوربا في القرن التاسع عشر، في الحكم على واقعهم، "فهم إذن غير ماركسيين، بل مثاليين، لأن من يدفع بحركة التاريخ إلى الأمام هي العوامل السياسية والاقتصادية أساسا. فإذا ما طرأ تغيير على هذه العوامل في شكل من الأشكال فلا بد من أن يؤثر على حركة المجتمع التاريخية في اتجاه من الاتجاهات" .

فالماركسي الذي ينظر إلى الفكرة التي تكونت خارج الواقع، لا يمكنه أن يكون ماركسيا؛ على اعتبار أن الماركسية نظرية لفهم الواقع مع العمل على تغييره، رغم أنها لا تتطابق مع الواقع الجديد الذي تريد تغييره، بل ستسعى، هي ذاتها، إلى عدم ثباته أو النظر إليه كشيء ساكن. ولعل الكثير من الماركسيين، بمن فيهم العرب والعالمثالثيون، عند بحثهم المسألة الدينية لم يخضعوها للمنهج الجدلي، وهو موقف غريب، لذلك كانت استنتاجاتهم غريبة، لأنها نقيض للماركسية، ولا سيما عدم إدراك طبيعة تناقضات الظاهرة الدينية ، وتركيزهم فقط، على مقولة الدين أفيون الشعوب: التي وردت في كتاب ماركس نقد فلسفة الحق عند هيجل في الصفحة 198، والتي " لم تفهم في سياقها ولم تخضع ولو لتدقيق بسيط". فالمقولة، في الأصل تعود لعمانوئيل كانط، حيث وردت في كتابه الدين في حدود العقل البسيط، والسياق المستعملة فيه هو أثناء حديثه عن" التطمينات التي يقدمها الرهبان عند رؤوس الموتى، فالخوف الجسدي من الموت هو الذي يعطي الشرعية لهذا التطمين وليس الألم الأخلاقي أو وخز الضمير". كما إن مفهوم الأفيون في القرن التاسع عشر، ليس هو نفسه الذي نعرفه عنه حاليا، فالاختلاف كبير بين علاج يستعمل طبيا وقانونيا في المستشفيات والصيدليات وبينه كمخدر سام ومدمر لجسم الإنسان؛ فالمقصود آنذاك هو أن إعطاء الأفيون خطأ وليس إدانته كعمل إجرامي، كما هو الحال اليوم . في المقابل، فإن ماركس يعترف بالمحتوى الإيديولوجي للدين وبدوره في الصراع الطبقي، وفي الوقت نفسه يعترف بمحتواه التحرري حين وضعه" روح لعالم بلا روح" . وعليه، ينبغي النظر إلى ازدواجية المفهوم لدى ماركس؛ حيث يجمع بين الروح والأفيون، تلك الازدواجية التي هي في أصل الدين ذاته.

ذلك أن ماركس كان ماديا ديالكتيكيا، أي ضد المثالية، وفي الوقت نفسه ضد المادية المبتذلة التي تريد اختزال كل شيء إلى عقلانية علمية وتجريبية مادية وضعية، في حين أنّ هناك بعدا رمزيا وذاتيا للعالم، مثلما له بعده المادي، وبهذا المعنى فقد كان ماركس ضد الماركسية الميكانيكية، وهو ما ينبغي على الماركسيين تمثُله، آخذين في الحسبان ظروف مجتمعاتهم ؛ على أساس أن الدين في رأي الماركسية، ظاهرة موضوعية تنتمي من حيث المجال إلى الوعي الاجتماعي. لذلك يصعب التعامل مع أي شعب دون إدراك مكونات وعيه الاجتماعي، والتعامل معها تعاملا موضوعيا ؛ فالدين من حيث كونه وعيا اجتماعيا، قد يلعب دورا إيجابيا في سياق تحرير الإنسان من الاستغلال؛ في ظل ظروف معينة ومعطيات محددة. لكنه، في المقابل، قد يستخدم من طرف الحكام أو رجال الدين، لتأبيد الاضطهاد الطبقي وتأجيل حله لصالح الفئات المنتجة. يقول لينين في هذا الصدد:" لقد كان الناس وسيظلون أبدا في حقل السياسية ضحايا ساذجة يخدعها الآخرون، بل ويخدعون أنفسهم ما لم يتعلموا استقراء المصالح الطبقية بين أسطر الخطب والبيانات والمواعظ والدعاوى الدينية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية".

ولإيجاد مخرج لهذا المأزق، اعتبرت الماركسية الدين أو بالأحرى التدين، بل المعتقد "علاقة داخلية للإنسان، يتعين احترامها والدفاع عن حقه في التمسك بها. أما استخدام الدين كأداة في الصراع الاجتماعي فإن الماركسية ترى أنه كان واردا وممكنا بل وثوريا في المراحل الأولى للتطور الاجتماعي، وأنه مع نشوء الطبقات الاجتماعية وتبلورها ووقوفها وجها لوجه في معترك الصراع الطبقي فإن إدخال الدين في هذا المعترك يمكنه أن يحرف الأفكار عن المعطيات الواقعية والأرضية لهذا الصراع، بل ويمكنه أن يجعل من المقولات الدينية شعارا أو أداة يستخدمها الحكام ... وبعض رجال الدين في تغييب الوعي الاجتماعي والطبقي للجماهير ومن ثم في فرض المزيد من الاستغلال والقهر عليهم" ، على حد تعبير رفعت السعيد.

هكذا طرح، وإن كان يحمل ما يحمل من وجاهة، فإن معطيات الواقع المعيش تقلل من أهميته؛ نتيجة عدم تفريقه بشكل دقيق بين الدين والإيديولوجيا الدينية: فالدين "مجموعة من التعاليم التي وردت في المصادر الدينية المعتمدة والتي تتعلق بعلاقة الإنسان بربه وبنفسه وبالآخرين، وهي تعاليم تتراوح بين الوضوح والإبهام والتشابه، وتتراوح بين الأحكام الاعتقادية وأحكام العبادات والأحكام الأخلاقية والأحكام التشريعية، وتتراوح في درجة إلزامها بين الأمر والنهي الجازمين وبين الندب والاستحسان والتفضيل والكراهة، وتتراوح بين ما هو ثابت لا يتغير من أحكام وبين ما يقبل التغير بتغير عادات الناس وأعرافهم" . أما "الايديولوجيا الدينية" فهي فهم الناس وتصوراتهم في كل عصر من العصور لأحكام الدين ومبادئه وتعاليمه وقواعده. وهو فهم تتداخل وتتشابك في تكوينه وصياغته مجموعة من العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تستعصي على الحصر. وكثيرا ما ينتهي الأمر بالأيديولوجيا الدينية إلى موقف متباعد من تعاليم الدين النقية الأولى، بل كثيرا ما تتعارض وتتناقض الايديولوجيا الدينية التي تستمد من دين واحد باختلاف عصور التاريخ وباختلاف مكونات الحضارة وباختلاف ظروف الناس ومعايشهم. فاستناد الناس إلى الايديولوجيا الدينية سواء لتبرير الحركات والمواقف الاجتماعية أو لمقاومة هذه الحركات والمواقف لا يعني بالضرورة أن تصرفهم هذا مطابق تماما لتعاليم الدين. وإلا فبماذا نفسر تلك الصراعات الاجتماعية الكبرى التي جرت بين أجنحة مختلفة لشرائح ايديولوجيا دينية واحدة. وهي صراعات معروفة للجميع؛ نجدها في تاريخ المسيحية والإسلام على السواء، إنها جميعها صراعات اجتماعية تحاول أن تستمد شرعيتها من الدين .

ففي المغرب، مثلا، اعتبرت منظمة إلى الأمام، أن "الأوليغارشية الوكيلة" قد جعلت من الإيديولوجية أداة لخداع وشل الجماهير؛ وذلك من خلال استعمالها للدين وتأليه المِلكية؛ وخاصة في بعض الأوساط الفلاحية، من طريق توظيف الزوايا. لكن هذا التأثير ظل سطحيا، نتيجة سلوك "الأوليغارشية" اليومي، الذي يمس مسا صريحا بأصول الدين؛ باعتباره تعبيرا ذاتيا أصيلا عن طموح الجماهير المسلوبة والمحرومة من العدالة. من جهة، وتحالفها مع الإمبريالية والصهيونية، من جهة ثانية. لذلك دعا هذا التنظيم إلى تجنب الحديث عن الدين؛ إلا إذا استعمل لتبرير الاستغلال والقهر. وفي هذه الحالة يجب مواجهة مثل هذه المواقف باستعمال الجوانب المشرقة في الدين .

الهدف ها هنا، هو محاولة توظيف موقف الاشتراكية المركب من الدين، بحيث يتم الوصول إلى الفصل بين الدين والتدين؛ فالدين عقيدة يجب احترمها، لكونها ناتجة عن وعي الفرد وبالتالي مستقلة أو يجب أن تكون كذلك عن كل صور السيادة الاجتماعية. فيما يتطلب الأمر، في المقابل، إدانة علاقة الطبقات الحاكمة بنوع من التدين، يستخدم في غير صالح القوى التقدمية في المجتمع. وهذا ما يقود إلى ضرورة فصل الدين عن التدين وفصل التدين عن السياسة. فالاشتراكية لم تسع إلى نقد الدين كمعتقد أو نفيه من حياة الإنسان، بل لم تفعل أكثر مما فعل فلاسفة التنوير؛ باعتبارها جزء من هذا المشروع الكبير، ولم تفعل أكثر مما فعل أنصار التنوير الإسلامي حينما أقاموا نظرتهم إلى الدين على مبادئ العقل والعقلانية؛ أمثال ابن رشد.

هكذا تصور، يفضي إلى ضرورة نقد التجليات السياسية للدين، وهذا لا يعني الدعوة إلى الإلحاد، بل فقط الاشتباك مع التوظيف السياسي للعقيدة، عندما تبرر، من خلال بعض أشكال التدين، وضع المراتب والطبقات، وتعلّم الفئات المسحوقة أخلاق العبيد، من طريق حثها على الاذعان والطاعة، القائمة أساسا على الاستغلال والاضطهاد باسم السماء.

لذلك تجد "العلمانية" جدوائتها؛ باعتبارها فصلا للدين عن التدين وفصلا للتدين عن السياسة، مع احترام الهوية؛ التي تتشكل من عناصر جامعة؛ متعددة ومنسجمة، نتيجة كونها حقيقة تاريخية حية، تُشكل محصلة تاريخ غني؛ متجدد ومتطور ومعبر عن تطلعات وآمال مشتركة، في ظل صيانة العقيدة والإيمان؛ باعتبارهما، مسألة خاصة، تعبر عن رؤية وجدانية، وروح فكرية تجاه الكون والطبيعة والمجتمع. أما الشريعة، باعتبارها مجموعة من القواعد ذات البعد القانوني، فقد تحجرت، حسب اليسار الجديد، نتيجة تعدد واختلاف بل تناقض القراءات التي اعطيت/تعطى لها، ولم تعد ملائمة لمراحل تاريخية وملابسات اجتماعية واقتصادية مغايرة. لذلك لا بد من فتح حرية المبادرة الفردية في فهم الشريعة بمعزل عن أية سلطة أو جهاز دولة يدعي مرجعية الاجماع. فالخلافة الإسلامية مثلا، لم تنبثق من طريق الشورى بل نتيجة ولاءات قبلية/دينية وشروط موضوعية، لتتحول إلى حكم فردي استبدادي؛ في إثر غياب محدداتها في النص والتاريخ الإسلاميين. وهذا ما يجعل دعوة الجماعات الأصولية إلى إعادة احيائها بدون جدوى. فإقامة ثيوقراطية، يكون فيها الحكم باسم الحق الإلهي، الذي لا يختصر على دمج الدين بالدولة بل يحصر السلطة ويقصرها على رجال الدين، غير تاريخي وغير ممكن. وما دامت الجماعات الإسلامية، متشبثة بهذا الخيار، فإن امكان تحالف اليسار الجديد، على المدى الاستراتيجي، معها يبقى بعيد المنال.